الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (25): {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}{وَمَن لَّمْ يَسْتَطعْ منكُمْ} {مِنْ} إما شرطية وما بعدها شرطها، وإما موصولة وما بعدها صلتها، و{مّنكُمْ} حال من الضمير في {يَسْتَطِعْ} وقوله سبحانه: {طُولًا} مفعول به ليستطع وجعله مفعولًا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول. والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد، وأصله الفضل والزيادة، ومنه الطائل، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم: طلته أي نلته، ومنه قول الفرزدق:قوله عز وجل: {أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء إما أن يكون متعلقًا بـ {طُولًا} على معنى ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة لـ {طُولًا} أي ومن لم يستطع غنى موصلًا إلى نكاحهن أو لنكاحهن أو على على أن الطول عنى القدرة كما قال الزجاج، ومحل {ءانٍ} بعد الحذف جر، أو نصب على الخلاف المعروف، وهذا التقدير قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلًا من {طُولًا} بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد بناءًا على أن الطول هو القدرة أو الفضل والنكاح قوة وفضل، وقيل: يجوز أن يكون مفعولًا ليستطع و{طُولًا} مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز أي ومن لم يستطع منكم استطاعة أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام.وقوله تعالى وتقدس: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة، و{مَا} موصولة في محل جر بمن التبعيضية، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله، وفي الحقيقة متعلق حذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم، وأجاز أبو البقاء كون من زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم، وقوله تعالى: {مّن فتياتكم} أي إمائكم {المؤمنات} في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى {مَا}، وقيل: من زائدة، و{فتياتكم} هو المفعول للفعل المقدر قبل، ومما ملكت متعلق بنفس الفعل، ومن لابتداء الغاية، أو متعلق حذوف وقع حالًا من هذا المفعول، ومن للتبعيض، و{المؤمنات} على جميع الأوجه صفة {فتياتكم}، وقيل: هو مفعول ذلك الفعل المقدر، وفيه بعد.وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط كما ذهب إليه الشافعي وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقًا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضى من قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] و{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب التخصيص؛ ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة؛ أما أولًا: فالمفهومان أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول، وأما ثانيًا: فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود طول الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها، وبالكراهة صرح في البدائع، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادًا بالأعم.واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضًا موصوفًا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر، أو رقيقة فرقيق، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلًا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقًا بعد كونه مسلمًا أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة، وكون العبد أبًا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرًا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرمًا لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل قاله ابن الهمام وفيه مناقشة ما فتأمل.وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم لكل جديد لذة أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد.{والله أَعْلَمُ بإيمانكم} جملة معترضة جيء بها تأنيسًا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب، ورب أمة يفوق إيمانها إمان كثير من الحرائر.والمعنى أنه تعالى أعلم منكم راتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم، وقيل: جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علمًا يقينيًا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب، وعلى الثاني يكون اعتراضًا آخر مؤكدًا للتأنيس من جهة أخرى؛ وعلى الأول يكون بيانًا لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك، وأيًا ما كان فبعضكم مبتدأ والجار والمجرور متعلق حذوف وقع خبرًا له، وزعم بعضهم أن {بعضكم} فاعل للفعل المحذوف، قيل: وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجلي على ذلك.{فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب. والمراد من الأهل الموالي، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا: للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في «الظهيرية» الوصي لو زوج أمة اليتيم من لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز، وفي «جامع الفصولين» القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب، وفي فتح القدير للشريك المفاوض تزويج الأمة، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومحمد، وقال أبو يوسف: يملكون ذلك، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك وهو رواية عند أحمد ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر، وقال: حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» والعهرالزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا جرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة عيب عن نفسه بخلاف النكاح، قال ابن الهمام: لا يقال: يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلًا عن تعييبه لأنا نقول: هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرًا ونهيًا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة. والحج، ثم هذه الأحكام تجب جزاءًا على ارتكاب المحظور شرعًا، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك وهو الشارع زجرًا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى. ادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم. واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلًا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل، وفي «الظهيرية» لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل، ومن نصف المسمى وحكى معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون {وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن، ولعل ما تقدم قرينة عليه، قيل: ونكتة اختيار {آتوهن} على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدًا لإيجاب المهر وإشعارًا بأنه حقهن من هذه الجهة، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه. وقال الإمام مالك: الآية على ظاهرها والمهر للأمة، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلابد أن تكون مالكة له يدًا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية، وإن حملت الأجور على النفقات استغنى عن اعتبار التقدير أولًا وآخرًا، وكذا إن فسر قوله تعالى.{بالمعروف} بما عرف شرعًا من إذن الموالي، والمعروف فيه أنه متعلق بآتوهن والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار، ويجوز أن يكون حالًا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقًا بأنكحوهن أي فانكحوهنّ بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهنّ ومهر مثلهنّ.{محصنات} حال إما من مفعول {آتوهن} فهو عنى متزوجات، أو من مفعول {بَعْضٍ فانكحوهن} فهو عنى عفائف، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصًا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه: {فتياتكم المؤمنات} فليس في إعادته كثير جدوى، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى: {غَيْرَ مسافحات} تأكيد له، والمراد غير مجاهرات بالزنا كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} عطف على {مسافحات} ولا لتأكيد ما في {غَيْرِ} من معنى النفي والأخدان جمع خدن وهو الصاحب، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقًا يزني بها والجمع للمقابلة، والمعنى ولا مسرات الزنا. وكان الزنا في الجاهلية منقسمًا إلى سر وعلانية، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون: إنه لؤم ويستحلون ما خفي ويقولون: لا بأس به، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151].{فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي بالأزواج كما قال ابن عباس وجماعة وقرأ إبراهيم {أُحْصِنَّ} بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن، وأخرج عبد بن حميد أنه قرئ كذلك ثم قال: إحصانها إسلامها، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الاحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضًا لا التزوج، وبعض من أراده من الآية قال: لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحرّ، وروي ذلك مذهبًا لابن عباس، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس، وقال الزهري: هو فيها عنى التزوج. والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «اجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جل وعلا: {مّن فتياتكم المؤمنات} فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام. وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع، وهو مشكل على قول من يقول فهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار.{فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك.{فَعَلَيْهِنَّ} أي فثابت عليهن شرعًا {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائر الأبكار {مّنَ العذاب} أي الحد الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأن لا يتنصف؛ وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم. قال الشهاب: وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص فلا وجه لما قيل: إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبًا وذكرًا بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى. والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقًا، فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في «كتب الفروع»، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرئ {فإن أتوا}، و{أتين بفاحشة}، هذا والفاء في {فَإِنْ أَتَيْنَ} جواب {إذا}، والثانية: جواب أن، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول، و{مّنَ العذاب} في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالًا من {مَا} لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل.{ذلك} أي نكاح الإماء {لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال: الإثم، فقال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الشاعر: وقيل: أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة، ومنه أكمة عَنُوت أي صعبة المرتقى، وفسره الزجاج هنا بالهلاك، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثور أيضًا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: المراد به الحد لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيًا مّا كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة، ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح.{وَأَن تَصْبِرُواْ} أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين.{خَيْرٌ لَّكُمْ} من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرًا وحضرًا، وعلى بيعهن للحاضر والبادي، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سميا إذا ولد لهم منهن أولاد، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات وذلك ذل ومهانة سارية للناكح، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق. وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرقه نصفه» وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلًا» وعن أبي هريرة وابن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال: «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر» وفي «مسند الديلمي والفردوس» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» وقال الشاعر: وقال الآخر: {والله غَفُورٌ} أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وإنما عبر بذلك تنفيرًا عنه حتى كأنه ذنب {رَّحِيمٌ} أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص.هذا ومن باب الإشارة الاجمالية في بعض الآيات السابقة: أنه سبحانه أشار بقوله عز من قائل: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم طلب السالك مقامًا ناله غيره، وليس له قابلية لنيله، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية، وقال شاعر الحقيقة المحمدية: وقال سيدي ابن الفارض على لسانها: ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول: وقال النيسابوري: المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلص عباده وأباح لهم بقوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب {مُّحْصِنِينَ} أي حرائر من الدنيا وما فيها {غَيْرَ مسافحين} في الطلب مياه الوجوه، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلًا، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات، ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادًا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا، وكم في الزوايا من خبايا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..
|